تحليل قصيدة " في الليل" للشاعر العراقي بدر شاكر السياب

 تحليل قصيدة " في الليل" للشاعر العراقي بدر شاكر السياب 

سعداء جدا بلقائكم تلاميدنا الأعزاء ، في حصة اليوم سنقدم لكم تحليل رائع وجميل لقصيدة "في الليل" للشاعر بدر شاكر السياب للثانية بكالوريا شعبتي الأداب والعلوم الإنسانية. 



◇ التأطير العام لحركة تكسير البنية 

ظهرت في أواخر أربعينيات القرن العشرين حركة تجديدية ثورية في تاريخ الشعر العربي، استطاعت أن تُحدث شرخًا عميقًا في القصيدة التقليدية، سواء على مستوى بنيتها الإيقاعية وصياغتها الفنية، أم على مستوى المضامين والمواقف الفكرية.

وقد جاءت هذه الحركة استجابة لظروف العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي أدت إلى خراب رهيب، وزعزعت كل القيم والمعتقدات، وأفرزت جرحًا غائرًا في جسد العالم العربي باحتلال فلسطين وإعلان الدولة الصهيونية عام 1948، وما أعقب ذلك من هزائم ونكبات وشعور بالإحباط، فضلاً عن المؤثرات السياسية والفكرية التي بدأت تتسرب إلى الوطن العربي من الخارج، كالمد الاشتراكي والفكر القومي والفلسفة الوجودية والنزعات الثورية.

الأمر الذي أسهم في إغناء تجربة الشاعر العربي المعاصر على المستويين الفكري والشعوري، فبات من الضروري تفجير الأشكال والوسائل التعبيرية القديمة واصطناع أشكال جديدة تلائم المضامين الجديدة التي جاءت بها حركة الشعر الحر.

وقد قاد هذه الحركة مجموعة من الرواد، أمثال: نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، أحمد عبد المعطي حجازي، وبدر شاكر السياب الشاعر العراقي الذي يعد من جيل الرواد المؤسسين لتجربة شعر تكسير البنية.

السياب شاعر عانى من المرض وفقد أمه منذ الصغر، وقد توفي وهو لم يتجاوز 38 سنة بعد رحلة علاج بإحدى مصحات لندن، ثم توفي بالكويت سنة 1964، مخلفًا وراءه العديد من الدواوين، وهذه القصيدة من ديوان أعماله الكاملة الصادر عن دار العودة 1971.

◇دلالة العنوان ووضع الفرضية

●دلالة العنوان 

يوحي عنوان القصيدة "في الليل" بزمن مزدوج، فهو يجمع بين هدوء السكينة والتأمل الداخلي، وبين الألم والوحدة والغربة. 

هذا التناقض يظهر بوضوح في مشهد الشاعر المحتجز في غرفة موصدة يحيط بها الصمت، ليصبح الليل رمزًا لصراعه النفسي وارتباطه بالجو العام للقصيدة ومضامينها العاطفية والوجودية.

●فرضية القصيدة:

بالنظر إلى الشكل المعماري للقصيدة نلاحظ أنها تتكون من أسطر شعرية متفاوتة من حيث الطول والقصر، فضلا عن تعدد القوافي والأرواء، وبملاحظتنا للعنوان، الذي يوحي دلاليا إلى زمن ذي دلالة مزدوجة، فهو زمن للراحة والسكينة والهدوء والإنصات إلى الذات في مختلف وضعياتها، لكنه أيضا زمن للألم والحزن والوحدة والعزلة .

وبقراءتنا لبداية القصيدة التي يعبر فيها الشاعر عن جو الغرفة الموصدة التي يقبع فيها والتي يطبق عليها الصمت القاتل من كل جانب، وبالنظر إلى مكان نظم القصيدة وهو لندن - حيث يخضع السياب للعلاج يمكننا أن نفترض أننا أمام نص شعري يندرج ضمن حركة تكسير البنية يعبر من خلاله الشاعر عن آلامه وصراعه مع المرض والغربة وهو في غرفته الكتيبة ليلا.


◇ الفهم

* تكتيف مضمون القصيدة:

يكاشفنا بدر شاكر السياب في هذه القصيدة بتجربته المريرة مع المرض، فهو حبيس غرفة لا يجد الخروج منها ولا التطلع إلى ما وراءها، وقد دفعه الخوف والوحدة إلى تهيؤات وأوهام جمعته مع أمه التي تدعوه إلى اللحاق بها في عالم الأموات، حيث لا معاناة ولا جراحات، فيعتزم بذلك الرحيل إليها من دون تردد. 

وقد انتظمت هذه المعاني وفق وحدتين دلاليتين رئيسيتين:

1. الوحدة والغربة في المكان: تمتد من بداية القصيدة إلى السطر الحادي عشر، عبر من خلالها الشاعر عن فضاء الغرفة الموصدة باعتبارها مكانًا كئيبًا يخلق له تهيؤات غريبة، باب مغلق وصمت عميق، وستائر مسدلة، وليل مظلم طويل، ولا أحد غير الأثواب التي تحولت إلى ما يشبه البشر، تهمس إليه بوحدته وغربته وعزلته في المكان والزمان.

2. الحوار الافتراضي مع الأم: تمتد من السطر الثاني عشر إلى نهاية النص، وفيها ينتقل الشاعر إلى توهم حوار افتراضي مع أمه، فبينما يسري اتجاه المقبرة تنهض إليه من القبر وتستقبله متسائلة عن حاله مع الوحدة والجوع والخوف والعطش، وترحب به وتعرض عليه أن يلبس من كفنها، أن يأكل من زادها، ويرتاح في فراشها لحدها.

وتنتهي القصيدة بإصراره على اللحاق بأمه في اللحد، بما يعني إحساسه بقرب نهاية حياته ودنو أجله.

وعموماً، فالنغمة الطاغية على القصيدة هي نغمة الحزن والضياع والغربة، وهي معان جديدة ترتبط بذات الشاعر ولا تنفصل عن واقع أمتها الحضاري، كما ترتبط برؤيته للموت والحياة. فالسياب يرى خلاصه في موته، بل يقتنع بالموت بديلاً عن محنة المرض والألم.


□ المستوى الدالي / المعجمي :

لإبراز مضامين هذه القصيدة، استعان الشاعر بمعجم يمزج بين تيمات الزمان والمكان والموت، محاولًا وضع المتلقي أمام صورة مأساوية لنفسيته القلقة الميالة إلى التخلص من ضغط الحياة والمرض.

وقد توزع هذا المعجم على ثلاثة حقول دلالية:

- معجم المكان: مثل (الغرفة، خلف الشباك، بستان الأرض، النهر).

- معجم الزمان: مثل (الليل، سريت الزمن، يوم الحشر، ستلقاني...).

- معجم الموت: مثل (الموت، سريت الثكلى، أمي، كفني، عزريك، نم، لحدي...).

وتجمع هذه الحقول في الآن ذاته علاقة تكامل وتفاعل تؤلفها النظرة الشمولية للشاعر نحو الكون والذات.

فالسياب يعيش غربة في المكان تمثلها غرفة مغلقة، وغربة في الزمان تمثلها الليل بكل دلالاته الرمزية الحاملة لمعنى الألم والوحدة والنهاية، وغربة في المصير ندركها في نهاية النص حين يقرر الشاعر اللحاق بأمه في القبر، معتبرًا الموت حلاً مناسبًا لمعاناته.

وملاحظة مهمة أن لغة القصيدة شفافة، تتسم بالبساطة وتقترب من لغة الحياة اليومية، دون أن تفتقد طاقتها التخييلية وبعدها الرمزي. وهكذا كان الشاعر مجددًا في لغته، ثائرًا على فخامة الألفاظ وجزالتها، موظفًا لغة تنقل نبض الواقع واضطرابات النفس.

الجمل والأساليب التي اعتمدها الشاعر في قصيدته :

أما من حيث الأساليب فقد زاوج الشاعر بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي في النص، ووظفهما الشاعر بغاية جعل التعبير عن انفعالاته ممتزجا بالرغبة في إخبارنا بمعاناته، فقد عمل الأسلوب الخبري على إخبارنا بمعاناته وتصوير الغربة التي يعيشها في المكان والزمان وقوة الإحساس بالموت وبالنهاية المحتومة ( الغرفة موصدة الباب ستائر شباكي مرخاة..).

أما الأسلوب الإنشائي فقد حضر بصيغة الاستفهام ( أتقتحم الليلا من دون رفيق ؟ والأمر تعال وتم عندي) والنداء ( يا اغلى من أشواقي).

ومن الناحية التركيبية فالملاحظ هو تعدد الضمائر في القصيدة، فنلاحظ حضورا لضمير الغائب الذي يقوم في الغالب بوظيفة الوصف والسرد الحركي لوقائع تحدث ليلا في مخيال الشاعر يتنصت لي يترصد بي أعطاها الباب المرصود نفسا...) . 

وضمير المتكلم لبست ثيابي سريت ستقول لي..). لجعل القصيدة ذات بناء مشهدي متكامل يعرض علينا مشاهد مفترضة صنعها خيال السياب المتأثر بالمرض، أما على مستوى الجمل فقد زاوج الشاعر بين الجملتين الفعلية والاسمية، إذ حملت الأولى دلالة الحركة والاستمرار والتجدد لأن الشاعر بصدد التحول نحو المصير المحتوم الموت ليزورك في الليل الكابي لبست ثيابي، سريت ستلقاني أمي، لم يبل على مر الزمن، أعددت فراشا...). 

أما الثانية ( الجملة الاسمية) فدلت على معاني الثبات والاستقرار، وبها يرصد الشاعر حال الغرفة ومعاناته بها (الغرفة موصدة الباب الصمت عميق...).

◇الصورة الشعرية

أما الصور الشعرية فقد قامت على الانزياح من خلال خلق علاقات جديدة بين الكلمات تخرق المألوف في صياغتها، واستعانت بالرمز والإيحاء بوصفهما وسيلة لتجاوز الدلالات المباشرة لألفاظ النص وعباراته، ومع ذلك استعان الشاعر ببعض مباحث البلاغة العربية القديمة من قبيل التشبيه الوارد في السطر السادس وأثوابي كمفزع بستان ، والاستعارة 

المكنية الواردة في السطر السابع أعطاها الباب المرصود نفسا الدالة على نزعة السياب التصوفية، وكذلك الشأن في (من صدر الأرض) وكلها صور تقوم بوظيفة تعبيرية ، تخييلية في النص والأساس هو أن القصيدة كلها عبارة عن صورة مشهدية شاملة وكلية تتفرع إلى صور جزئية، ومن هذه الصورة الكلية نستشف طبيعة نظرة الشاعر إلى الحياة والموت والوجود . نظرة تعتبر الحياة ألما وعذابا ومعاناة لا نهائية، وتعتبر الموت خلاصا من قساوة الحياة وما تنزله بالشاعر من محن لا يستطيع تحملها.

◇البنية الإيقاعية

1- الإيقاع الخارجي 

إذا نظرنا إلى الإيقاع في القصيدة، نجد أن الشاعر اعتمد الإيقاع الخارجي على أسطر متفاوتة الطول. واختار تفعيلة المتدارك (فاعلن) لتوصيل شعوره بالحزن والغربة، وهي من البحور الخليلية الصافية، لكنه لم يلتزم دائمًا بالقواعد التقليدية، فالتفاعيل تختلف من سطر لآخر بحسب دفقته الشعورية وتجربته. أحيانًا يستخدم تفعيلة واحدة، وأحيانًا اثنتين أو ثلاث.

كما وزع الأسطر بطريقة تنسجم مع الجو النفسي للقصيدة. أما القوافي، فتنوعت بين مطلقة أحيانًا (رويها متحرك) وأحيانًا مقيدة (رويها ساكن)، وأحيانًا مردوفة وأحيانًا غير مردوفة. كما تنوعت أصوات الروي بين حروف شديدة مثل (القاف، الدال، الباء) وحروف شفوية، لتعكس الأنين والحزن، وكل هذه الأصوات مرتبطة بمعاناة الشاعر وأساه ويأسه من الحياة.

2- الإيقاع الداخلي 

يتميز الإيقاع الداخلي للقصيدة بتكرار حروف الروي مثل القاف والدال والباء، وهي حروف قوية تعكس شدة معاناة الشاعر ورغبته في التعبير عن محنته. كما تتكرر حروف مهموسة مثل الهاء والسين والصاد لتعكس الجو النفسي المتأزم وحالة الضعف والمرض والانكسار التي يعيشها الشاعر في غرفة موصدة ليلا.

بالإضافة إلى ذلك، تكررت حروف المد لتعبر عن التأوه والحسرة والألم، ولم يقتصر التكرار على الحروف فقط، بل شمل كلمات مثل "الباب" و"الصمت"، كما تكررت عبارة "الصمت عميق". هذا التكرار جعل بعض أسطر القصيدة تشبه أغنية حزينة، وخلق على مستوى البنية الإيقاعية موسيقى تنسجم مع معاناة الشاعر، وتمكن القارئ من الشعور بأثر هذه المعاناة بشكل واضح.

التركيب :

تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن هذه القصيدة تحفل بغنائية خاصة ذات طابع وجداني عميق، حيث كانت الذات الشاعرة محور التعبير عن المعاناة والوحدة والغربة، وعن الصراع مع المرض والحزن والحنين إلى الأم. 

كما اعتمد السياب في قصيدته على بناء شعري مسرحي محكم، جعل المشاهد النصية إيحائية ودالة على حالته النفسية المتأزمة. واستند الشاعر إلى بنية إيقاعية داخلية متجددة، ساهمت في خلق موسيقى شعرية متوافقة مع مشاعره، فضلاً عن الغنى الأسلوبي والرمزي في القصيدة.

 وبذلك، تنتمي هذه القصيدة إلى خطاب تكسير البنية في الشعر العربي الحديث، الذي يركز على الذات بكل مشاعرها وأحاسيسها وتجاربها الوجدانية العميقة.

◇ فقرة تفاعلية:

ما رأيكم أعزاءنا القراء في تجربة السياب الشعرية هذه؟
هل استطاع هذا التحليل أن يجعلكم تشعرون بالغربة والألم الذي عاشه الشاعر؟

شاركونا آراءكم وتجاربكم في قراءة الشعر العربي الحديث، وهل ترون أن الليل كما صوره السياب يحمل معانٍ وجدانية مشابهة لتجاربكم الشخصية؟
ننتظر تعليقاتكم لتبادل الأفكار وإثراء النقاش حول هذا النص الشعري العميق.
 عماد الدين زهير
عماد الدين زهير
من هو عماد الدين؟عماد الدين، مدون مغربي ومؤسس موقع نديروا اليد فاليد من أجل الحصول على البكالوريا، حاصل على شهادة البكالوريا في شعبة الآداب والعلوم الإنسانية سنة 2015، كما نال شهادة الإجازة في القانون الخاص.جاءت فكرة تأسيس هذا الموقع من إيماني العميق بأهمية التضامن المعرفي، وسعيًا لمد يد العون لتلاميذ البكالوريا، عبر تقديم محتوى تعليمي يُسهم في تمكينهم من النجاح والتفوق الدراسي.
تعليقات